«أكبر هدية يمكن أن يقدمها الاحتلال لي هي أن يغتالني. أُفضل الموت بالصواريخ أو طائرات الـ’إف-16’ عن أن أموت بوباء الكورونا أو بجلطة وأنا موجود. سأجلس بعد المؤتمر 10 دقائق بعد الانتهاء، وسأنزل على مكتبي، وأركب السيارة، وأذهب لبيتي الجديد الذي يعرفون عنوانه.. سأستغرق قرابة 60 دقيقة في مشاويري، يعني أمامهم 3600 ثانية ليقرروا ويُطلقوا طائراتهم ويستهدفونني، ولن يرمش لي جفن. وإذا كان موتي هو صورة النصر الذي يريدها الاحتلال فأنا جاهز».
بتلك الكلمات الواضحة والجريئة رد يحيى السنوار على أحد الإعلاميين حين سأله في لقاء يُذاع على الهواء مباشرة جمع السنوار مع عدد من إعلاميي غزة، إذا كان يخشى من تهديدات إسرائيل حين قالت، إنه لا حصانة لأحد من الاغتيال حتى لو كان يحيى السنوار أو محمد الضيف.
بمرور السنوات والمواقف أصبح اسم السنوار علماً لا يحتاج معه إلى الديباجة المعتادة للتعريف بمنصبه العسكري أو السياسي. وأتى شهر أكتوبر ليمنح يحيى السنوار كل شيء. فالـ19 من أكتوبر عام 1962 هو يوم ميلاده، في مخيم خان يونس للاجئين جنوب قطاع غزة. حيث نزحت أسرته من مدينة مجدل شمال شرقي القطاع بعد أن احتلتها إسرائيل بعد نكبة عام 1948، وغيرت اسمها إلى أشكلون/ عسقلان.
ثم أتى أكتوبر عام 2023 جعله الرجل الذي قاد واحدة من أنجح عمليات الكوماندوز عبر التاريخ، واستطاع أن يُنفذ ويخطط على مدى أعوام لعملية ساحقة هزت أركان إسرائيل، وقضت على أهم فرقة عسكرية لدى الكيان، فرقة غزة. وباتت إسرائيل من وقتها في تخبط استراتيجي تحاول دائماً الهروب للأمام خوفاً من مغبة التوقف والتحقيق حول «طوفان الأقصى».
أما أكتوبر الأخير في حياته فقد أتى والرجل يحمل إلى جانب منصب قائد الجناح العسكري منصباً آخر وهو رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية، حماس. لكن ذلك المنصب لم يتلبس السنوار، فقد تناقلت وسائل الإعلام تغريدة نُقلت عنه يقول صاحبها إن السنوار قال لمن حوله «إنه سيخلع بدلة السياسة التي ألبسوها إياه عنوة».
لم تتأكد صحة التغريدة ولا نسب النص للسنوار، لكن تأكد في الـ17 من أكتوبر عام 2024 أن الرجل لم يكن يرتدي ملابس السياسة. بل جعبة الحرب وبندقية يفوح منها ريح البارود، ودماء تحيط به، بعضها له والبعض الآخر من جنود الاحتلال الذين اشتبك معهم وجهاً لوجه، فوق الأرض وعلى الخط الأمامي للقتال. ليكون في التخطيط كأكبر قائد عسكري، وفي القتال كل مقاتلي كتائب القسام التي أشرف عليها من قبل حتى أن يكون على رأسها رسمياً.
لتكون بذلك الصورة التي نشرها الاحتلال الإسرائيلي هي الوسام الأكبر الذي حصل عليه السنوار في مسيرته. فكما قال أحد أهالي الشهداء لأم شهيد يواسيها حين رأت جسد ابنها وقد سكنته ما يصل إلى 23 رصاصة، فقال لها، «لا تبك، ابنك سَبع، 23 رصاصة ولا واحدة منهم في ظهره»، كناية أنه واجه وصمد حتى النهاية.
تغيب الأسماء في قصص أهل فلسطين، وفي مقاومة أهل غزة تحديداً، ليس لعدم أهميتها، لكن لأنهم صاروا جسداً واحداً، فكل شهيد هو شهيد الكل، وكل رصاصة تسكن جسد أحدهم، تسكن جسد الكل. ولا يبالون بالرصاصة قدر ما يبالون أن تكون رصاصة في مواجهة لا أثناء الفرار. وقد كانت إصابات يحيى السنوار في الوجه والرأس، والبندقية في حضنه، والملابس العسكرية تقول إن الرجل كان في المعركة طوال الوقت.
كان السنوار حقيقة في المعركة طوال سنوات عمره، منذ لحظة ميلاده وحتى لحظة استشهاده. فقد وُلد وهو يعايش الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على مخيمه، وتلقى تعليمه في مدرسة خان يونس الثانوية للبنين، ثم التحق بالجامعة الإسلامية بغزة وتخرج فيها بدرجة البكالوريوس في شعبة الدراسات العربية.
لم تكن دراسته الجامعية جزءاً منفصلاً عن معركته الكبرى مع الاحتلال. فقد كان له نشاط بارز في الكتلة الإسلامية، وهي الفرع الطلابي لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين. ولم يكن شاباً عادياً التحق بجماعة قائمة، بل كانت له وجهة نظر في القضية ككل، وسعى عبر قدرته على الإقناع وحضوره الطاغي وقربه من الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، إلى جعل رؤيته ذات أولوية لدى كل الأجنحة في الحركة، السياسية والعسكرية.
الرؤية ببساطة وحسم أنه يجب القضاء على العملاء الذين دسهم الاحتلال في وسط المقاومة. كما يجب أن تزيد المقاومة من تدابيرها الأمنية بصورة كبيرة. طرح تلك الرؤية على الشيخ أحمد ياسين فوافقه فيها، فانبرى السنوار يؤسس جهازه الخاص «مَجد» ليكون شبيهاً بجهاز استخبارات تابع للمقاومة.
تتبع السنوار عبر «مَجد» عديداً من العملاء الذين عملوا لصالح الاحتلال، وتعاملت معهم الحركة بأساليب مختلفة. ثم أتت الفكرة أن يتحول «مجد» لتتبع الضباط الإسرائيليين تمهيداً لاختطافهم ومبادلتهم. رغم حذر السنوار المُعتاد فإن الحركة كانت مخترقة بشكل أكبر من قدرة السنوار على تحييد كل العملاء في وقت قصير. لذا علمت إسرائيل بخطط السنوار فقررت القبض عليه فوراً.
ليكون الاعتقال الأول في حياته عام 1982، وحُكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر بتهمة عامة وهي المشاركة في نشاطات أمنية ضد إسرائيل. ثم خرج من السجن ووضع اللمسات الأخيرة على جهاز «مَجد» لملاحقة المتعاونين فاعتقلته إسرائيل عام 1985، ثم خرج وأعادت اعتقاله، ثم في يناير عام 1988 أدركت إسرائيل حقيقة ما كان يُخطط له السنوار، فتتابعت ضده الأحكام المؤبدة، فحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
ليس مرة واحدة، بل أربعة أحكام بالسجن مدى الحياة، فقد اتهم بقتل جنديين إسرائيليين وأربعة فلسطينيين متعاونين مع الاحتلال. ثم أضافت إسرائيل لهم 30 عاماً بتهمة تأسيس جهاز أمني، والمشاركة في تأسيس ما سنعرفه حالياً باسم كتائب القسام، لكن عُرف حينها باسم «المجاهدون الفلسطينيون».
تلك الأحكام كانت تعني أن يقضي السنوار حياته في السجن، وحين يموت يظل جثمانه مصادراً في ثلاجات الاحتلال كي يقضي باقي المؤبدات. لكن كان لديه اليقين الدائم أنه سيخرج من السجن، لا يعرف الكيفية بعد، لكنه يقين سكنه، فحاول السنوار مسايرته.
حاول في البداية الخروج من السجن عبر الهرب. حين كان معتقلاً في سجن المجدل بعسقلان تمكن من حفر ثقب في جدار زنزانته بواسطة سلك ومنشار حديدي صغير، وعندما لم يتبق سوى القشرة الخارجية للجدار انهارت وكُشفت محاولته. وفي سجن الرملة استطاع أن يقص القضبان الحديدية من الشباك، ويجهز حبلاً طويلاً، لكنه كُشف في اللحظة الأخيرة.
لذلك كان يُعاقب غالباً بالسجن الانفرادي. واجتمعت عليه في تلك المحنة آلام جسدية شتى. فكانت معدته مصابة بالتهابات جعلته يتقيأ دماً. ثم عانى من صداع مزمن وارتفاع مستمر في درجة حرارته. وبعد ضغط متواصل من رفاقه في السجن، أُجريت له فحوصات كشفت عن وجود ورم حميد في الدماغ، فجرى استئصاله في عملية استغرقت سبع ساعات.
لم تنس إسرائيل تلك العملية، وظلت تُعاير السنوار بأنها من أنقذت حياته، وأن عليه أن يكون وفياً لها أكثر. لكن الرجل كان وفياً للقضية التي وُلد عليها وتربى عليها، وفي النهاية مات عليها.
عُوقب السنوار بالحرمان من أهله، فلم يرَ والده إلا مرتين خلال 13 عاماً، لكن لم تكن تلك العقوبات سبباً لتحطيم روحه، بل قرر أن يكون وقته في السجن دافعاً لفهم الاحتلال الإسرائيلي وقراءة هذا الاحتلال من الداخل. فبعد أن أتقن العبرية استطاع أن يفتح نافذة مهولة على الأدبيات الإسرائيلية، وعلى العقلية الصهيونية.
فترجم أثناء فترة سجنه كتاب «الشاباك بين الأشلاء» لكارمي جيلون، وهو كتاب يتناول جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، الشاباك. كما صدر له عام 2010 كتاب «المجد» الذي ويرصد عمل الشاباك أيضاً، وطريقته في جمع المعلومات وتجنيد العملاء، وأساليب وطرق التحقيق الوحشية من الناحية الجسدية والنفسية، إضافة إلى تطور نظرية وأساليب التحقيق والتعقيدات التي طرأت عليها وحدودها.
كما ترجم كتاب «الأحزاب الإسرائيلية عام 1992»، ويعرف بالأحزاب السياسية في إسرائيل وبرامجها وتوجهاتها خلال تلك الفترة. كما كتب رواية «شوك وقرنفل» التي صدرت عام 2004 وتحكي قصة النضال الفلسطيني منذ عام 1967 حتى انتفاضة الأقصى. والأهم أن له كتاب بعنوان «حماس: التجربة والخطأ»، يتطرق فيه لتجربة حركة حماس وتطورها.
خرج السنوار من السجن في صفقة تبادل للأسرى هو مهندسها الأبرز، رغم أنه كان في السجن وقتها. ليكون ذلك الخروج الدرامي هو الخطوة الأولى في تنفيذ وعيده للضباط الذين استجوبوه في السجون الإسرائيلية أنه يوماً ما سيقبض عليهم، ويستجوبهم.
خرج ضمن أكثر من ألف أسير خرجوا في مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2011. وفور خروجه صار السنوار عضواً بالانتخاب في المكتب السياسي للحركة، وتولى قيادة كتائب القسام. وبات حلقة الوصل بين الجناح السياسي والعسكري. وحين تولى قيادة المكتب السياسي في قطاع غزة، عمل على تحسين العلاقات مع حركة فتح ومع مصر. تم التوصل لاتفاقات مُرضية للجانب المصري لتنجح جهود السنوار في هذا الجانب. بينما فشلت جهود التقارب مع السلطة الفلسطينية.
في مارس 2021، انتخب رئيساً لحركة حماس في غزة لولاية ثانية مدتها أربع سنوات في الانتخابات الداخلية للحركة. وبعد طوفان الأقصى بات السنوار المطلوب الأول لإسرائيل. لكن ذلك لم يمنع من تنصيبه رئيساً لحركة حماس بعد اغتيال إسرائيل لرئيسها السابق إسماعيل هنية في طهران في 31 يوليو 2024. وقبل هذا الاختيار كان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، قد طالب في 20 مايو 2024 باستصدار أوامر اعتقال ضد هنية والضيف والسنوار، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
كل تلك المعارك الجانبية، لم تكن يوماً بعيدة عن المعركة الكبرى التي قرر السنوار أن يمضي فيها إلى النهاية. معركة تحرير الأقصى وإزالة الاحتلال من فلسطين. واستطاع أن يضع المنطقة بأكملها في مواجهة مع هذا المحتل، ويفرض السنوار رؤيته للصراع والحل على المنطقة التي كادت تنسى قضية شعبه وآلامه.
فإذا أرادت إسرائيل أن تجعل من اغتيال السنوار صورة لنصرٍ تريده، فقد قَبل الرجل سابقاً، بعد أن قصف تل أبيب بـ130 صاروخاً. ولا يمكن أن يمانع حالياً بعد أن زلزل تل أبيب، وجعل الصواريخ الباليستية تأتيها من إيران والعراق واليمن ولبنان. فيمكنهم أن يستخدموه كصورة للنصر، وهو ثمن مقبول مقابل الهزيمة الشديدة التي تعرض لها الكيان. لكن كما اعتادت المقاومة الفلسطينية، فإن اغتيال قائد يؤدي إلى ميلاد 100 قائد غيره، وجميعهم يسيرون في مسار واحد لهدف واحد، القضاء على إسرائيل.
وصرح الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ أن كل شيء يبدأ وينتهي مع السنوار. قد يكون هرتسوغ مصيباً في شق الجملة الأول، فالطوفان بدأ مع السنوار لكن النصف الثاني يبدو خطأً، فواقع حركات المقاومة يقول إنه لا شيء ينتهي مع اغتيال زعيم أو قائد، بل ربما غالباً ما يكون الاغتيال غرساً لبذرة المقاومة بصورة أعمق، ورياً للفكرة بدماء أشرس، ليخرج من وسط ركام الاغتيال مقاتلاً أشد قوة، وفكراً أكثر شراسة، وسلاحاً أعظم إيلاماً للعدو.
وعلى إسرائيل أن تستعد لمقاومة لم تعهدها سابقاً، مقاومة رُويت بدماء الآلاف من الشهداء في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة، ومن بين هؤلاء الآلاف دماء رجل كالسنوار.
# حرب غزة # طوفان الأقصى # فلسطين # إسرائيل # غزة # يحيى السنوار # حركة حماس